الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: شرح العقيدة الواسطية (نسخة منقحة)
هؤلاء بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم في نسق واحد، فقال: «أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة …»، ولهذا لقبوا بهذا القلب، فيجب أن نشهد أنهم في الجنة لشهادة النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.(2) ثابت بن قيس رضي الله عنه أحد خطباء النبي صلى الله عليه وسلم، كان جهوري الصوت، فلما نزل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} [الحجرات:2]، خاف أن يكون عمله وهو لا يشعر، فاحتفي في بيته، ففقده النبي عليه الصلاة والسلام، فبعث إليه رجلًا يسأله عن اختفائه فقال: إن الله أنزل قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون}، وأنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم حبط عملي، أنا من أهل النار!! فأتى الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما قال ثابت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اذهب إليه، فقل له إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة»، فبشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة.وغيرهم من الصحابة (1) ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره، من أن خير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر ثم عمر (2) ………….(1) مثل أمهات المؤمنين، لأنهن في درجة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنهم بلال، وعبد الله بن سلام، وعكاشة بن محصن، وسعد بن معاذ، رضي الله عنهم.(2) التواتر: خبر يفيد العلم اليقيني، وهو الذي نقله طائفة لا يمكن تواطؤهم على الكذب.* ففي (صحيح البخاري) وغيره عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فنخير أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان.* وفي (صحيح البخاري) أيضًا آن محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر. قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر. وخشيت أن يقول: عثمان، قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين.فإذا كان على رضي الله عنه يقول وهو في زمن خلافته: إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، فقد اندحضت حجة الرافضة الذين فضلوه عليهما.* قوله: (وغيره)، يعني: غير علي من الصحابة والتابعين.* وهذا متفق عليه بين الأئمة.- وقال الإمام مالك: ما رأيت أحدًا يشك في تقديمهما.- وقال الشافعي: لم يختلف الصحابة والتابعون في تقديم أبي بكر وعمر.ومن خرج عن هذا الإجماع، فقد اتبع غير سبيل المؤمنين.ويثلثون بعثمان (1) ويربعون بعلي (2) رضي الله عنهم كما دلت عليه الآثار وكما أجمع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة (3) …………(1) (يثلثون)، يعني: أهل السنة، يجعلون عثمان هو الثالث.(2) (ويربعون بعلي) أي: يجعلون عليًّا هو الرابع.وعلي هذا، فأفضل هذه الأمة هؤلاء الأربعة: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي.(3) استدل المؤلف لهذا الترتيب بدليلين:الأول: قوله: (كما دلت عليه الآثار): وقد سبق ذكر شيء منها.والثاني: قوله: (وكما أجمع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة):فصار في تقديم عثمان على علي رضي الله عنهما آثار نقلية، وفيه أيضًا دليل عقلي، وهو إجماع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة، فإن إجماعهم على ذلك يستلزم أن عثمان أفضل من علي، وهو كذلك، لأن حكمة الله عز وجل تأبي أن يولي على خير القرون رجلًا وفيه من هو أفضل منه، كما جاء في الأثر: كما تكونون يولي عليكم، فخير القرون لا يولي الله عليهم إلا من هو خيرهم.مع أن بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي رضي الله عنهما بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر أيهما أفضل؟ فقدم قوم عثمان وسكتوا أو ربعوا بعلي (1)، وقدم قومًا عليًّا (2)، وقوم توقفوا (3).(1) فيقولون: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ويسكتون، أو يقولون: ثم علي.(2) فقالوا: أبو بكر، ثم عمر، ثم علي، ثم عثمان. وهذا رأي من آراء أهل السنة.(3) فقالوا: أبو بكر، ثم عمر. وتوقفوا أيهما أفضل: عثمان أو علي؟ وهذا غير الرأي الأول.* فالآراء أربعة:- الرأي المشهور: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي.- الرأي الثاني: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم السكوت.- الرأي الثالث: أبو بكر، ثم عمر، ثم علي، ثم عثمان.- الرأي الرابع: أبو بكر، ثم عمر، ثم نتوقف أيهما أفضل: عثمان أو على، فهم يقولون: لا نقول: عثمان أفضل، ولا علي أفضل، لكن لا نري أحدًا يتقدم على عثمان وعلي في الفضيلة بعد أبي بكر وعمر.لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان (1) وإن كانت هذه المسألة – مسألة عثمان وعلي – ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة (2) ولكن المسألة التي يضلل فيها مسألة الخلافة (3) وذلك أنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم على (4) ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء الأئمة فهو أضل من حمار أهله (5) ……………….(1) هذا الذي استقر عليه أمر أهل السنة، فقالوا: أفضل هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، على ترتيبهم في الخلافة. وهو الصواب، كما سبق دليله.(2) يعني: المفاضلة بين عثمان وعلي رضي الله عنهما ليست من أصول أهل السنة التي يضلل فيها المخالف، فمن قال: إن عليًّا أفضل من عثمان، فلا نقول: إنه ضال، بل نقول: هذا رأي من آراء أهل السنة، ولا نقول فيه شيئًا.(3) فيجب أن نقول: الخليفة بعد نبينا في أمته أبو بكر، ثم عمر ثم عثمان، ثم علي. ومن قال إن الخلافة لعلي دون هؤلاء الثلاثة، فهو ضال، ومن قال: إنها لعلي بعد أبي بكر وعمر، فهو ضال، لأنه مخالف لإجماع الصحابة رضي الله عنهم.(4) وهذا ما أجمع عليه أهل السنة في مسألة الخلافة.(5) الذي يطعن في خلافة أحد من هؤلاء، ويقول: إنه لا يستحق الخلافة! أو: إنه ممن سبقه! فهو أضل من حمار أهله.وعبر المؤلف بهذا التعبير، لأنه تعبير الإمام أحمد رحمه الله، ولا شك أنه أضل من حمار أهله، وإنما ذكر الحمار، لأنه أبلد الحيوانات على الإطلاق، فهو أقل الحيوانات فهمًا، فالطعن في خلافة أحد من هؤلاء أو في ترتيبه طعن الصحابة جميعًا.* فيجب علينا أن نعتقد بأن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وأنهم في أحقية الخلافة على هذا الترتيب، حتى لا نقول: إن هناك ظلمًا في الخلافة، كما ادعته الرافضة حين زعموا أن أبا بكر وعمر وعثمان والصحابة كلهم ظلمة، لأنهم ظلموا على بن أبي طالب، حيث اغتصبوا الخلافة منه.* أما من بعدهم، فإننا لا نستطيع أن نقول: إن كل خليفة استخلفه الله على الناس، فهو أحق بالخلافة من غيره، لأن من بعدهم ليسوا في خير القرون، بل حصل فيهم من الظلم والانحراف والفسوق ما استحقوا به أن يولي عليهم من ليس أحق بالخلافة منهم، كما قال الله تعالى: {وكذلك نولي بعض الظالمين بعضًا بما كانوا يكسبون} [الإنعام: 129].* واعلم أن الترتيب في الأفضلية على ما سبق لا يعني أن من فضل غيره، فإنه يفضله في كل شيء، بل قد يكون للمفضول فضيلة لم يشاركه فيها أحد، وتميز أحد هؤلاء الأربعة أو غيرهم بميزة يفضل بها غيره لا يدل على الأفضلية المطلقة، فيجب التفريق بين الإطلاق والتقييد.ويحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) …………………………….(1) أي: ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يحبون آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحبون لأمرين: للإيمان، وللقرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يكرهونهم أبدًا.ولكن لا يقولون كما قال الرافضة: كل من أحب أبا بكر وعمر، فقد أبغض عليًّا، وعلى هذا فلا يمكن أن تحب عليا حتى نبغض أبا بكر وعمر، وكأ، أبا بكر وعمر أعداء لعلي بن أبي طالب مع أنه تواتر النقل عن علي رضي الله عنه أنه كان يثني عليها على المنبر.فنحن نقول: إننا نشهد الله على محبة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابته، نحبهم لمحبة الله ورسوله.- - ومن أهل بيت أزواجه بنص القرآن، قال الله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحًا جميلًا وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرًا عظيمًا يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحًا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولًا معروفًا وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطيرًا} [الأحزاب، 28- 33]، فأهل البيت هنا يدخل فيها أزواج الرسول عليه الصلاة والسلام بلا ريب.- وكذلك يدخل فيه قرابته، فاطمة وعلي والحسن والحسين وغيرهم كالعباس بن عبد المطلب وأبنائه.- فنحن نحبهم لقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولإيمانهم بالله.فإن كفروا، فإننا لا نحبهم، ولو كانوا من أقارب الرسول عليه الصلاة والسلام، فأبو لهب عم الرسول عليه الصلاة والسلام لا يجوز أن نحبه بأي حال من الأحوال، بل يجب أن نكرهه لكفره ولإيذائه النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أبو طالب، يجب علينا أن نكرهه لكفره، لكن نحب أفعاله التي أسداها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام من الحماية والذب عنه.ويتولونهم (1) ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) حيث قال يوم غدير خم: «أذكركم الله في أهل بيتي» (3) ……………………………………(1) أي: يجعلونهم من أوليائهم، والولي: يطلق على عدة معان، يطلق على الصديق، والقريب، والمتولي للأمر، وغير ذلك من الموالاة والنصرة، وهنا يشمل النصرة والصداقة والمحبة.(2) أي: عهده الذي عهد به إلى أمته.(3) هو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة. وهذا الغدير ينسب إلى رجل يسمي (خم)، وهو في الطريق الذي بين مكة والمدينة، قريب من الجحفة، نزل الرسول عليه الصلاة والسلام فيه منزلًا في رجوعه من حجة الوداع، وخطب الناس، وقال: «أذكركم الله في أهل بيتي»، ثلاثًا، يعني: اذكروا الله، اذكروا خوفه وانتقامه إن أضعتم حق آل البيت، واذكروا رحمته وثوابه إن قمتم في حقهم.وقال أيضًا (1) للعباس عمه وقد اشتكي إليه أن بعض قريش يجفو (2) بني هاشم (3) فقال: «والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي» (4) ………………….(1) (أيضا): مصدر آض يئيض، أي: رجع، وهو مصدر لفعل محذوف، والمعني: عودًا على ما سبق.(1) (2) (يجفو) يترفع ويكره.(2) (3) * (هاشم): هو جد أبي الرسول صلى الله عليه وسلم.(3) (4) أقسم صلى الله عليه وسلم أنهم يؤمنون، أي: لا يتم إيمانهم، حتى يحبوكم لله، وهذا المحبة يشاركهم فيها غيرهم من المؤمنين، لأن الواجب على كل إنسان أن يحب كل مؤمن لله، لكن قال: (ولقرابتي): فهذا حب زائد على المحبة لله، ويختص به آل البيت قرابة النبي عليه الصلاة والسلام.* وفي قول العباس: (إن بعض قريش يجفو بني هاشم): دليل على أن جفاء آل البيت كان موجودًا منذ حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن الحسد من طبائع البشر، إلا من عصمه الله عز وجل، فكانوا يحسدون آل بيت الرسول عليه الصلاة والسلام على مأمن الله عليهم من قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، فيجفونهم ولا يقومون بحقهم.* فعقيدة أهل السنة والجماعة بالنسبة لأل البيت: أنهم يحبونهم ويتولونهم، ويحفظون فيهم وصية لرسول صلى الله عليه وسلم في التذكير بهم، ولا ينزلونهم فوق منزلتهم، بل يتبرؤون ممن يغلو فيهم، حتى يوصلوهم إلى حد الألوهية، كما فعل عبد الله بن أبي طالب حين قال له: آنت الله! والقصة مشهورة.وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله اصطفى بن إسماعيل (1)، واصطفى من بني إسماعيل كنانة (2)، واصطفى من كنانة قريشًا (3)، واصطفى من قريش هاشم (4)، واصطفاني من بني هاشم» ويتولون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين (5) ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة (6) ……………………….(1) (إسماعيل): هو ابن إبراهيم الخليل، وهو الذي أمر الله إبراهيم بذبحه، وقصة في سورة الصافات.(2) (كنانة): هو الأب الرابع عشر الرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أله وسلم.(3) (قريش): هو الأب الحادي عشر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو فهر بن مالك، وقيل: الأب الثالث عشر، وهو النضر بن كنانة.(4) (هاشم) هو الأب الثالث لرسول الله صلى الله عليه وسلم.(5) قوله: (أمهات المؤمنين): هذه صفة لـ (أزواج) فأزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات لنا في الإكرام والاحترام والصلة، قال تعالى: {النبي أولي بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم} [الأحزاب: 6]، فنحن نتولاهن بالنصرة والدفاع عنهن واعتقاد أنهن أفضل أزواج أهل الأرض، لأنهن زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم.وهذا دليل على أن بني هاشم مصطفون عند الله مختارون من خلقه.لأحاديث وردت في ذلك، ولقوله تعالى: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم} [غافر: 7- 8] فقال: {وأزوجهم}، فأثبت الزوجية لهن بعد دخول الجنة، وهذا يدل على أن زوجة الإنسان في الدنيا تكون زوجته في الآخرة إذا كانت من أهل الجنة.(1) (خصوصًا): مصدر محذوف العامل، أي: أخص خصوصًا.(2) (خديجة بنت خويلد): تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم أول ما تزوج، وكان عمره حينذاك خمسًا وعشرين سنة، وعمرها أربعين سنة، وكانت امرأة عاقلة، وانتفع بها صلى الله عليه وسلم انتفاعًا كثيرًا، لأنها امرأة ذات عقل وذكاء، ولم يتزوج عليها أحدًا.* فكانت كما قال المؤلف: (أم أكثر أولاده): البنين والبنات، ولم يقل المؤلف: أم أولاده، لأن من أولاده من ليس منها، وهو إبراهيم، فإنه كان من مارية القبطية.* وأولاده الذين من خديجة هم ابنان وأربع بنات: القاسم، ثم عبد الله، ويقال له: الطيب، والطاهر. وأما البنات، فهن: زينب، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية. وأكبر أولاده القاسم، وأكبر بناته زينب.(3) لا شك أنها أول من آمن به، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءها وأخبرها بما رأي في غار حراء، قالت: كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا. وآمنت به، وذهبت به إلى ورقة بن نوفل، وقصت عليه الخبر، وقال له: إن هذا الناموس الذي كان ينزل على موسي. (الناموس) أي: صاحب السر. فآمن به ورقة.ولهذا نقول: أول من آمن به من النساء خديجة، ومن الرجال ورقة بن نوفل.وعاضده على أمره (1) وكان لها منه المنزلة العالية (2) والصديقة بنت الصديق رضي الله عنها (3) التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» (4) ………………………………(1) أي: ساعده، ومن تدبر السيرة، وجد لأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها من معاضدة النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يحصل لغيرها من نسائه.(2) قوله: (وكان لها منه المنزلة العالية): حتى إنه كان يذكرها بعد موتها صلوات الله وسلامه عليه، ويرسل بالشيء إلى صديقاتها، ويقول: «إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد»، فكان يثني عليها، وهذا يدل على معظم منزلتها عند الرسول صلى الله عليه وسلم.(3) أما كونها صديقة، فلكمال تصديقها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكمال صدقها في معاملته، وصبرها على ما حصل من الأذى في قصة الإفك، ويدلك على صدقها وصدق إيمانها بالله أنه لما نزلت براءتها، قال: إني لا أحمد غير الله. وهذا يدل على كمال إيمانها وصدقها.وأما كونها بنت الصديق، فكذلك أيضًا، فإن أباها رضي الله عنه هو الصديق في هذه الأمة، بل صديق الأمم كلها، لأن هذه الأمة أفضل الأمم، فإذا كان صديق هذه الأمة، فهو صديق غيرها من الأمم.(4) قوله: «على النساء»: ظاهره العموم، أي: على جميع النساء.وقيل: إن المراد: فضل عائشة على النساء، أي من أزواجه اللاتي على قيد الحياة، فلا تدخل في ذلك خديجة.لكن ظاهر الحديث العموم، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد«إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ، فله أجر»، فنقول: هم مخطئون مجتهدون، فلهم أجر واحد.فهذا الذي حصل موقفنا نحن منه له جهتان: الجهة الأولى: الحكم على الفاعل. والجهة الثانية: موقفنا من الفاعل.- أما الحكم على الفاعل، فقد سبق، وأن ما ندين الله به أن ما جرى بينهم، فهو صادر عن اجتهاد، والاجتهاد إذا وقع فيه الخطأ، فصاحبه معذور مغفور له.- وأما موقفنا من الفاعل، فالواجب علينا الإمساك عما شجر بينهم لماذا نتخذ من فعل هؤلاء مجالًا للسب والشتم والوقيعة فيهم والبغضاء بيننا، ونحن في فعلنا هذا إما آثمون وإما سالمون ولسنا غانمين أبدا.* فالواجب علينا تجاه هذه الأمور أن نسكت عما جرى بين الصحابة وأن لا نطالع الأخبار أو التأريخ في هذه الأمور، إلا المراجعة للضرورة.(1) قسم المؤلف الآثار المروية في مساويهم ثلاثة أقسام:القسم الأول: ما هو كذب محض لم يقع منهم، وهذا يوجد كثيرًا فيما يرويه النواصب في آل البيت وما يرويه الروافض في غير آل البيت.القسم الثاني: شيء له أصل، ولكن زيد فيه ونقص وغير عن وجهه.وهذان القسمان كلاهما يجب رده.القسم الثالث: ما هو صحيح، فماذا نقول فيه؟ بينه المؤلف بقوله:* (والصحيح منه هم فيه معذورون: إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون).* والمجتهد إن أصاب، فله أجران، وإن أخطأ، فله أجر واحد، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا حكم الحاكم، فاجتهد، ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم، فاجتهد، ثم أخطأ فله أجر».* فما جرى بين معاوية وعلى رضي الله عنهما صادر عن اجتهاد وتأويل.لكن لا شك أن عليا أقرب إلى الصواب فيه من معاوية، بل قد نكاد نجزم بصوابه، إلا إن معاوية كان مجتهدًا.* ويدل على أن عليا أقرب إلى الصواب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ويح عمارا تقتله الفئة الباغية»، فكان الذي قتله أصحاب معاوية، وبهذا عرفنا أنها فئة باغية خارجة على الإمام، لكنهم متأولون، والصواب مع على إما قطعنًا وإما ظنًا.وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره (1) ….(1) وهناك قسم رابع: وهو ما وقع منهم من سيئات حصلت لا عن اجتهاد ولا عن تأويل: فبينه المؤلف بقوله:* وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره.* لا يعتقدون ذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم: «كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون».ولكن الواحد منهم قد يفعل شيئًا من الكبائر، كما حصل من مسطح بن أثاثه وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش في قصة الإفك، ولكن هذا الذي حصل تطهروا منه بإقامة الحد عليهم.بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة (1) ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر عنهم إن صدر (2) ………………………………………………(1) يعني: كغيرهم من البشر، لكن يمتازون عن غيرهم بما قال المؤلف رحمه الله: (ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر).(2) هذا من الأسباب التي يمحو الله بها عنهم ما فعلوه من الصغائر أو الكبائر، وهو ما لهم من السوابق والفضائل التي لم يلحقهم فيها أحد، فهم نصروا النبي عليه الصلاة والسلام، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، وبذلوا رقابهم لإعلاء كلمة الله، فهذه توجب مغفرة ما صدر منهم، ولو كان من أعظم الذنوب، إذا لم يصل إلى الكفر.* ومن ذلك قصة حاطب بن أبي بلتعة حين أرسل إلى قريش يخبرهم عن مسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، حتى أطلع الله نبيه على ذلك، فلم يصلهم الخبر، فاستأذن عمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يضرب عنق حطب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنه شهد بدرًا، وما يدريك؟ لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم».حتى أنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم، لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهم خير القرون، وأن المد من أحدهم إذا تصدق به، كان أفضل من جبل أحد ذهبًا ممن بعدهم (1)، ثم إن كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه (2)، أو أتي بحسنات تمحوه (3). أو غفر له بفضل سابقته (4) ……………………………………….(1) وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «خبر الناس قرني»، وفي قوله: «لا تسبوا أصحابي، فلو الذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه».(2) يعني: وإذا تاب منه، ارتفع عنه وباله ومعرته، لقوله تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثامًا} إلى قوله: {إلا من تاب وآمن وعمل عملًا صاحًا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورًا رحيما} [الفرقان: 68- 70]، ومن تاب من الذنب كمن لا ذنب له، فلا يؤثر عليه.(3) لقوله تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود: 114].(4) لقوله تعالى في الحديث القدسي في أهل بدر: «اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم».أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذين هم أحق الناس بشفاعته (1) أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه (2) فإذا كان هذا في الذنوب المحققة، فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين: إن أصابوا، فلهم أجران، وإن أخطأوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور (3). ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم (4) …(1) وقد سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع في أمته، والصحابة رضي الله عنهم أحق الناس في ذلك.(2) فإن البلاء في الدنيا يكفر الله به السيئات، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «ما من مسلم يصيبه أذي من مرض فما سواه، إلا حط الله به سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها» صلى الله عليه وسلم، والأحاديث في هذا مشهورة كثيرة.(3) سبق دليله، فتكون هذه من باب أولي آلا تكون سببًا للقدح فيهم والعيب.* فهذه الأسباب التي ذكرها المؤلف ترفع القدح في الصحابة، وهي قسمان:الأول: خاص بهم، وهو مالهم من السوابق والفضائل.والثاني: عام، وهى التوبة، والحسنات الماحية، وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، والبلاء.(4) القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل جدًّا نزر أقل القليل، ولهذا قال: (مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم).* ولا شك أنه حصل من بعضهم سرقة وشرب خمر وقذف وزني بإحصان وزني بغير إحصان، لكن كل هذه الأشياء تكون مغمورة في جنب فضائل القوم ومحاسنهم، وبعضها أقيم فيه الحدود، فيكون كفارة.من الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة، والنصرة، والعلم النافع، والعمل الصالح (1) ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما من الله عليهم به من الفضائل، علم يقينًا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء (2) ………………………….(1) فكل هذه مناقب وفضائل معلومة مشهورة، تغمر كل ما جاء من مساوئ القوم المحققة، فكيف بالمساوئ غير المحققة أو التي كانوا فيها مجتهدين متأولين.(2) هذا بالإضافة إلى ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلي آله وسلم من قوله: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.وعلى هذا تثبت خيرتهم على غيرهم من أتباع الأنبياء بالنص والنظر في أجوالهم.فإذا نظرت بعلم وبصيرة وإنصاف في محاسن القوم وما أعطاهم الله من الفضائل، علمت يقينًا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، فهم خير من الحواريين أصحاب عيسي، خير من النقباء أصحاب موسي، وخير من الذين آمنوا من نوح ومع هود وغيرهم، لا يوجد أحد في أتباع الأنبياء أفضل من الصحابة رضي الله عنهم، والأمر في هذا ظاهر معلوم، لقوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران: 110]، وخبرنا الصحابة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم خير الخلق، فأصحابه خير الأصحاب بلا شك.هذا عند أهل السنة والجماعة، أما عند الرافضة، فهم شر الخلق، إلا من استثنوا منهم.(1) أي: ما وجد ولا يوجد مثلهم، لقوله عليه الصلاة والسلام: «خير الناس قرني» فلا يوجد على الإطلاق مثلهم رضي الله عنهم لا سابقًا ولا لاحقًّا.(2) أما كون هذه الأمة خير الأمم، فلقوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [آل عمران: 110] وقوله: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس} [البقرة: 143]، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم خير الرسل، فلا جرم أن تكون أمته خير الأمم.وأما كون الصحابة صفوة قرون الأمة، فلقوله صلى الله عليه وسلم: «خير الناس قرني»، وفي لفظ: «خير أمتي قرني»، والمراد بقرنه: الصحابة، وبالذين يلونهم: التابعون، وبالذين يلونهم: تابعوا التابعين.قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والاعتبار بالقرون الثلاثة بجمهور أهل القرن، وهم وسطه، وجمهور الصحابة انقرضوا بانقراض خلافة الخلفاء الأربعة، حتى إنه لم يكن بقي من أهل بدر إلا نفر قليل، وجمهور التابعين بإحسان انقرضوا في أواخر عصر أصاغر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبد الملك وجمهور تابعي التابعين في أواخر الدولة الأموية وأوائل الدولة العباسية). أ هـ.وكان أخر الصحابة موتًا أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي سنة مئة من الهجرة، وقيل: مئة وعشر.قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): (واتفقوا على أن أخر من كان من أتباع التابعين ممن يقبل قوله من عاش إلى حدود العشرين ومئتين).
|